Menu

زَمَكَانُ الْبَترِ والاقْتِلاعْ.. قِراءَة نَقْدِيَّة في رواية "رجالٌ في الشَّمْس"

عبد الرحمن بسيسو

رجال في الشمس

غزة _ بوابة الهدف

في الفصل الموسوم بـ "الطَّريق"، وفي لحظة بالغة التَّوتر من لحظات رحلة القيظ التي جسَّدت إيغال شخصيات رواية غسَّان كنفاني "رجال في الشَّمْس" في متاهة البحث عن منفى آخر في المنفى، يُفاجئ ‘‘أسعد‘‘ أحدُ أبطال الرِّواية، ‘‘أبا الخيزران‘‘ سائق الشاحنة وأحد أبطال الرِّواية أيضاً، بالسُّؤال: "قُلْ لي يا أبا الخيزران ..أَلَمْ تَتَزَوَّجْ أَبَدَاً؟"(1). ويترافق إطلاق السُّؤال مع انصباب أشعة الشَّمْس الحارقة، وخيوط ضوئها اللَّاهب فوق زُجَاج واجِهَة الشَّاحنة، فيلتقيان معاً لِيُشَكِّلا مُفَجِّراً يُطْلِقُ عنان التَّداعيات الخاصة بـِزَمَكَانَيِّ العملية الفدائية وغرفة العمليات.

مَرَايَا مُتَنَاظِرةٌ وتَوَازِيَاتٌ دَالَّةٌ

يقودُ السُّؤال إلى تركيز انتباه "أبي الخيزران" على أشعة الشَّمْس الحارقة المصوَّبة إلى جبينه، فيدفعه هذا التركيز إلى إقامة الموازاة بين ضوء الشَّمْس وضوء كشَّاف غرفة العمليات، ثم بين لهيب الشَّمْس الحارق وانفجار اللَّغم أمامه وأمام رفاقه أثناء قيامهم بعملية فدائية. وهكذا تنطلق تداعيات أبي الخيزران من إسارها، ويشرعُ مكنونُ لاوعيه الدَّفين في التَّدفق:

"هزَّ أبو الخيزران رأسه ثمَّ ضيَّق جفنيه كي يتلافى ضوء الشَّمْس الذي انصبَّ، فجأةً، فوق زجاج الواجهة .. كان الضوء ساطعاً بحدةٍ حتَّى أنه لم يستطع، بادئ الأمر، أنْ يرى شيئاً .. إلا أنه أحس بألم فظيع يتلولب بين فخذيه، ثمَّ استطاع أنْ يتبين، بعد لأيٍّ، أنَّ ساقيه مربوطتان إلى حمَّالتين ترفعانهما إلى فوق، وأنَّ عدداً من الرجال يدور حوله .. أغمض عينيه برهةً ثمَّ فتحهما، مرةً أخرى، على وسعهما. كان الضَّوء المستدير الموضوع فوق رأسه يحجب عنه السَّقف ويُعْشِي بصره. ولم يستطع أنْ يتذكر، وهو مقيد هناك على ذلك الشَّكل المحكم والغريب، أكثر من شيء واحد حدث له منذ برهة، ليس غير، كان يركض مع عدد من الرجال المسلحين حين تفجَّرت جهنم أمامه فسقط على وجهه .. هذا كل شيء، والآن، الألم الفظيع مازال يغوص بين فخذيه، والضَّوء المستدير الضخم مُعلَّقٌ فوق عينيه وهو يحاول أنْ يرى إلى الأمور والأشخاص مُضَيِّقَاً جفنيه قَدْرَ المُسْتَطاَع .. وفجأةً خطر له خاطر أسود فبدأ يصيح بجنون " (2).

تتكثَّفُ صورةُ الوطن في وجدان أبي قيس، هنا، مع تداخل زمكاني العملية الفدائية وغرفة العمليات. ونكاد، على امتداد الرِّواية، ألا نعرف شيئاً عن حياة أبي الخيزران في الوطن على غير صلة بهذين الزَّمَكَانَين المُتَدَاخِلَين، فهو قد "خدم في الجيش البريطاني في فلسطين قبل عام 1948 أكثر من خمس سنين، وحين ترك الجيش وانضم إلى فرق المجاهدين كان معروفاً بأنه أحسن سائق للسيارات الكبيرة يمكن أنْ يُعثر عليه، ولذلك استدعاه مجاهدو الطيرة ليقود مصفَّحةً عتيقةً كان رجال القرية قد استولوا عليها إثر هجوم يهودي "(3).

ولا تُوجد في الرِّواية أي إشارة إلى حياة أبي الخيزران في فلسطين قبل اقتلاعه منها سوى هذه الإشارة التي يبدو أنها وظَّفت لإنجاز أمرين:

أولهما: التمهيد للكلام على مسألة التحاقه بالثُّوار (المجاهدين) واشتراكه في العملية الفدائية التي أسفرَت نتيجتها عن إصابتهِ إصابةْ بالغةَ الخُطورة، ودخوله غرفة العمليات؛

وثانيهما: تبرير كونه سائقاً للشَّاحنة – الخزان، التي اسْتَقَلَّها أبطال الرِّواية بحثاً عن منفى آخر في المنفى.

ولعلَّ في كلا الأمرين ما يُشير، بوضوح، إلى أنَّ مقصد الكاتب من وراء استدعاء زَمَكَانَيِّ العملية الفدائية وغرفة العمليات إنَّما يتركَّز في التقاط لحظة جوهرية حاسمة، وشديدة الخصوصية، من لحظات حياة أبي الخيزران في الوطن، وليس في الحديث التَّفصيلي الذي يرسم منحى حياته كاملاً. وتلك، كما نرى، لحظة عميقة الدلالة، متعددة الأبعاد، وتنطوي على إمكانيات غنية لإقامة توازٍ دلاليٍّ بين الخاص والعام يفتح الزَّمَكَانَ الرِّوائِيَ على تكثيف مرحلة حاسمة من مراحل التَّاريخ الفلسطيني، ويجعله رمزاً عليها.

توضح الإشارات الزَّمنية المباشرة التي يعمد الكاتب إلى تكثيفها أنَّ المسافة الزَّمنية ما بين وقوع الحدث واسترجاعه تستغرق عقداً كاملاً، فقد "مرت عشر سنوات على ذلك المشهد الكريه على ذلك اليوم الذي اقتلعوا فيه رجولته"(4).

وإذ نعرف أنَّ زَمَنَ الرَّحيل نحو منفى آخر في المنفى، ولحظة انفجار تداعيات أبي الخيزران بشأن العملية الفدائية وغرفة العمليات، يقعان في العام 1958، يتضح أنَّ زمن الحدث المسترجع هو العام 1948، وهو الأمر الذي يؤسس لبناء موازاةٍ زمنية - دلالية ذات أبعاد رمزية، حيث يصبح ما جرى لأبي الخيزران، في العام نفسه، معادلاً رمزياً لما جرى لفلسطين، فقد خسر أبو الخيزران رجولته، أو بتعبير أدق، عضوه الذَّكري، بينما اقتطعت العصابات الصُّهيونية جزءاً كبيراً من فلسطين لتقيم عليه (إسرائيل)، وإذْ اقْتُلِعَ أبو الخيزران من وطنه وقُذف به إلى المنفى، فإنَّ الأمرَ نفسه قد أصابَ أعداداً غفيرة من أبناء الشعب الفلسطيني ببلاءٍ مأساوي لَمْ يُكبحْ بلاؤهُ بعدُ، وذلك بالمعنى الذي يجعل من الاقتلاع من الوطن قريناً، أو مُعادلاً دلالياً، لفقد الرًّجولة، أو بتعبير أدقّ، لفقد القدرة على إخضاب الحياة أو عيش حياة خصبة سوية في وطنٍ مبتور، أو في أيِّ مركز إيواءٍ، أو مَنْفَىً، خارج هذا الوطن.

هكذا نكون في إطار حركة دلالية تنتج عن وجود عدد من المرايا المتناظرة التي تتبادل انعكاس الدَّوال، أو نكون في قلب استعارة كلية ملتحمة توحَّد الخاص بالعام، وتجعل كلاً منهما رديفاً للآخر ورمزاً عليه، بحيث يبدو الأمر وكأنَّ أبا الخيزران هو الوطنُ مُشَخَّصاً مُؤَنْسَنَاً، أو كأنَّ فِلَسْطِينَ المغتصبة، المقطَّعة الأوصال، هي أبو الخيزران المسكون بمرارة الفقد الفردي والجماعي في آنٍ معاً. وليس من شك في أنَّ الارتقاء بالحدث التاريخي المأساوي إلى مستوى الرمز المتعين، المشخَّص في حالة إنسان متفرد شديد الخصوصية، يفضي إلى تعميق الإحساس بضراوة المأساة، ومرارة الفقد، على المستويين العام والخاص، الذَّاتي والجماعي، الفردي والوطني، فقد "ضاعت رجولته وضاع الوطن" (5)، وبدا الهاجس الأسود الذي هجم على أبي الخيزران حين كان مُقَيَّداً في غرفة العمليات، هاجساً مقيماً لا يفارقه، يُلحُّ باهظاً عليه، يثقل ذاكرته ووجدانه ويَصْبُغُهُمَا بالذُّل والمهانة، ويجعله يعيش المأساة العامة والخاصة ويعانيهما وقد توحَّدتا في مأساته، فهو لم يقبل نسيان مأساته، وما كان له أنْ يقبل، بعد عشر سنوات، أنْ يعتادها أو يتعايش معها .. بل "إنه لم يقبل ذلك حتَّى حين كان تحت المبضع يحاولون أنْ يقنعوه بأنَّ فقدان الرجولة أرحم من فقدان الحياة .." (6)

تَدَاعِياتٌ حُرَّة غَيرُ مُبَاشِرة

لعلَّ السَّعي إلى توليد الدَّلالات عبر إقامة التوازي الدَّال أنْ يكون مسؤولاً عن توسُّط الرَّاوي في نقل تداعيات أبي الخيزران المتعلقة بزمكاني العملية الفدائية وغرفة العمليات، إذْ تصلنا هذه التَّداعيات محمولةً على صوت الرَّاوي، مشيرةً إلى صاحبها بضمير الغائب، وذلك في سياق نوعٍ من التَّداعي الحر غير المباشر الذي يفسحُ المجالَ أمام الرِّوائي، عبر الرَّاوي، لبناء علاقات نصية، ولتوليد حركات دلالية ومدلولات لا يمكن لها أنْ تتحقق، أو أنْ تكون سافرةً واضحةً، إنْ توسَّل السَّردُ التَّداعِيَ الحرَّ المباشرَ عبر ضمير المتكلم.

إنَّ الرَّاوي، المسكون بتاريخ الشَّخصية والذَّاهب نحو التقاط لحظة جوهرية من لحظات حياتها في ماضي الوطن، يقوم بتنفيذ عملية إعادة بناء للتَّداعيات الحرَّة، فيكسرها أحياناً بتعليق يُدْلِي به، أو بتقديم معلومة جديدة تُضِيئها وتغير اتجاه دلالتها، وذلك على نحو يجعلها تداعيات حرَّة ومقيَّدة في آنٍ واحد، ففي الوقت الذي نشعر بحضور أبي الخيزران نشعر أيضاً بحضور الرَّاوي الذي يبثُّ رؤيته الخاصة عبر صوته الخاص. ولئنْ كانت حرية التَّداعي مشروطة بحضور أبي الخيزران كفاعل أصليٍّ للتداعي، فإنَّ السيطرة عليه أو إعادة توجيهه إنَّما تشترطان حضور الرَّاوي ليتولَّى فعل ذلك عبر إقامة علاقات التَّوازي، وعبر تمرير صوت أبي الخيزران في مصفاة صوته، وعبر تسليط ضوء رؤيته الخاصة على أقواله قبل وصولها إلينا.

وفي هذا الضَّوء، نجد أنَّ زَمَكَانَي العملية الفدائية وغرفة العمليات يتشكَّلان وفق آلية التَّداعي الحُرِّ غير المباشر، وهي آلية تفضي إلى التركيز والتصفية، وإلى تغييب الوصف المشهدي التفصيلي وتقليص العناصرِ المكونةِ كِلَا الزمكانين إلى أقصى حد، مع تركيزها وقصرها على ما يُمْكِنُ توظيفه في سياق عملية التَّوليد الدَّلالي. ففي زَمَكَان العملية الفدائية يقتصر الأمر على حادثة واحدة هي لحظةُ الانفجارِ التي تُحْضِرُ هذا الزَّمكان عبر إشارة سريعة: " كان يركض مع عدد من الرجال المسلحين حين تفجَّرت جهنم أمامه فسقط على وجهه .. هذا كلُّ شيء"(7).

تَعْمِيمُ الأَمْكِنَةِ وَتَجْرِيدُ الأَحْدَاث

إذْ يغيبُ تحديدُ المكانِ، ولا تُوْلَى مواصفاته الطُّوبُوغرافِيَّة أي عناية، ويجرَّد الحدث من التفاصيل المميزة، فإنَّ لهذا أنْ يضعنا في إطار مكان مجرَّد ومعمَّم، وإزاء حدث قابل للوقوع في أي عملية فدائية أو عسكرية، وهو الأمر الذي يعطي الانطباع بأنَّ زَمَكَان العملية الفدائية قد وظَّف، هنا، ليكون مجرد مدخل لولوج زَمَكَان غرفة العمليات دون أنْ يكون حاضراً لذاته، أو للدَّلالة على نفسه. إنَّ الانفجارَ، الذي لا يستغرق الحديث عنه سوى جملة واحدة، يُسفرُ عن إصابة أبي الخيزران، فيجري نقله إلى غرفة العمليات لتقتلع فيها رجولته، وذلك كرديفٍ موازٍ لاقتطاع جزء من الوطن هو منبعُ خصوبته الدائمة، ثمَّ لاقتلاع إنسان الوطن من الوطن الذي هو مجاله الحيوي، بحيث يبدو الأمر وكأننا إزاء مرآتين متناظرين تعكس واحدتهما نفسها وما يترآى في نظيرنها الموازية، وذلك  في سياق تناظر مرايا وتشابك دلالاتٍ يؤسِّسان لفتح شبكة الدَّلالات المتواشجة على فضاءاتٍ تتجاوب مع ما تكتنزهُ ذاكرةُ القارئ من وقائعَ مأساويةٍ شبيهةٍ، أو عذاباتٍ مُمِضَّةٍ وآلام، أو قصصِ حَيَاةٍ تُواكِبُهَا حكاياتُ موت!

وعلى الرَّغم من أنَّ غرفة العمليات، مكاناً وحالةً، هي مجالٌ مثاليٌ لانبثاق التَّداعي الحُرِّ، المُنْفَلت من كلِّ عِقالٍ إلى الحدِّ الذي يغيب معه صاحب التَّداعي عن إدراك ما يفعل، وكإنَّما هو محض آلة ناطقة، فإنَّ هيمنة مقصد التَّوليد الدَّلالي على الكاتب، وعبره على الرَّاوي، جعلتهما يضربان صفحاً عن توظيف الإمكانات المتاحة أمام إطلاق تداعٍ حرٍّ ينبثق حرَّاً بامتياز، ودفعتهما إلى إعادة بناء تداعيات أبي الخيزران وتقييدها، سواء أتمَّ ذلك عبر هيمنة صوت الرَّاوي، أم عبر استعمال ضمير الغائب الذي يقيم مسافةً بين الرَّاوي والشخصية من جهة، وبيننا وبين كليهما من جهة ثانية، مما يدفعنا إلى تركيز الانتباه على مغزى ما يُقال عِوضاً عن الانخراط في القول، أو الاندماج في التَّجربة، وذلك على نحو يؤكد الاستنتاج الذي تقدمنا بطرحه حول مقصد التَّوليد الدَّلالي وغايته البنائية التي حملته إلى قدرٍ من التَّجريد والتَّعميم.

ولأنَّ غرفة العمليات لا تَحْضُرُ للدَّلالة على نفسها معزولة عن الحدث الذي وقع فيها، وإنَّما تحضر كإطار زمكاني احتوى حدثاً يجري التركيز عليه، فإنَّ التَّحديدات والخصائص المكانية التي يمكن أنْ تكون قابلةً للتأويل على نحو يجعل المكان نفسه دالاً، تغيب تماماً، ويقتصر الأمر على إظهار العناصر التي تكفل بناء الحدث الذي هو عملية البتر المراد إبرازها لبناء توازٍ دالٍ يقوم على خطوط حادثة مأساوية وحيدة. وهكذا يتسم زَمَكَان  غرفة العمليات بأعلى قدر من التَّقْلِيص، ويتحوَّل إلى إطار لاحتواء حدث يسمه بميسمه، فلا تتوفَّر فيه إلا العناصر الكفيلة بإتمام عملية البتر: أطباءٌ وممرضونَ (رجالٌ)، كشَّافُ ضَوءٍ ساطعٍ، حمَّالتينِ تُقَيِّدانِ السَّاقَين وتَرفَعَانِهِمَا إلى أَعْلى، وَمِبْضَعُ جرَّاح.

وعلى غرار زَمَكَان العملية الفدائية، يندرج زَمَكَانُ غرفة العمليات ضمن عناصر السَّرد من خلال الحدث الواقع فيه، ولا يحوز على أي دلالة تُجاوز دلالة هذا الحدث، إذْ تجري تغطية الوجود المادي لكلا الزَّمكانين، ولعناصرهما المختلفة، بالحالة النَّفسية الناجمة عن الحدث، وهو الأمر الذي يفضي إلى تعميق الإحساس بفداحة سقوط الوطن في أيدي المحتلين، أو بمأساوية بتر جزء منه لإقامة كيان غريب فوقه، أو بعقابيل اقتلاع أصحابه الأصليين منه وقذفهم إلى المنافي لملاقاة الويل. لقد ظلَّ هذا الإحساس النَّاجم عن حدث مأساوي تتعدَّد خطوطه فيما هو يضفر العام بالخاص، ويُداخلهما، مهيمناً على أبي الخيزران، ومجسِّداً في مرايا مُخيلته صورة الوطن الأخيرة التي حفظتها ذاكرته كما ارتسمت أمام ناظريه، ورسخت في وجدانه، لحظة اقتلاعه من وطنه، والَّتي كان لها أنْ تُحَدِّدَ منظور رؤيته للعالم، وإيقاع خطوه اللَّاحق في دروبِ الحياة المتاحة، أو على المداخل المسدودة لحياةٍ ينبغي أنْ تكونَ هي الحياة!

وَطَنٌ مَسْروقٌ وَوُجُودٌ فَرْدِيٌّ مُؤَجَّلٌ

لم يكنْ أمامَ "أبو الخيزران"، كإنسان فلسطينيٌ فقير ضحَّى بأغلى ما يملك من أجل حُرِّيَةِ وَطَنِهِ، حتَّى فقد رجولته عندما أُجهضت ثورته، أو جُعلت عقيمةً حين أُطْفِئَت جذوتها المخصبة، إلا أنْ يفقدُ ثقته في قاطني العَالم من النَّاس، وإلا أنْ يهربُ منهُ إيمانهُ الرَّاسخُ بالله، وذلكَ في برهة تجديف تذكرنا بمأساة النَّبي أيوب ونفاد صبره على ما ابتُلي به: "يا إلهي العليِّ الذي لم تكن معي أبداً، الذي لم تنظر إليَّ أبداً، الذي لا أؤمن بك أبداً "(8). إِنَّهُ لا يرى إلى نفسه إنساناً يحيا، بل هيكلاً مَيْتَاً في حَيَاة مَيْتَةٍ، أي إنساناً منشطراً على نفسه، مهشَّم الهوية، "كُلَّمَا سُئِلَ بشكل عابر: ‘‘لماذا لا تتزوَّج؟‘‘ عاد إليه الإحساس الكريه بألم يغوص بين فخذيه .. "(9). إِنَّهُ كائنٌ هلاميٌ يحملُ دلالة اسمه التي تقرنهُ بِأُبوَّة الخيزران، إنه محضَ شيء وليس إنساناً يحيا، وكأنَّما فقدان الرُّجولة يُعادل فقدانَ الرُّوح؛ ماءَ الحيَاة وغيثُ الحيَا، وكأنَّما هو لا يُناظر شيئاً سوى الولوجَ في جُرودٍ جرداء يُفضي عبورها إلى تشظِّية الهُوِيَّة؛ فهو، من وجهة نظر مروان، أحد أبطال الرِّواية، قادرٌ على التَّكور مثل كائن هلامي لزج، أو مثل خيزرانة رطبة، إذْ "بوسعه أنْ يُقوِّس نفسه، فيضع رأسه بين قدميه دون أنْ يُسبِّب ذلك أيَّ إزعاج لعموده الفقري أو لبقية عظامه"(10).

وإذْ تدلُّ هذه الصُّورة المجازية على حالة الإذلال والمهانة التي تملأُ وجود أبي الخيزران فتفقده القدرة على الوجود، وتذكَّره دائماً برجولته المفقودة، وبحقيقة أَنَّهُ مبتورٌ مثل وطنه المبتور، منفيٌ مقتلعٌ من وطنٍ مُغْتَصَبٍ مَقْهُور، مَطْرُود ومطَارَدٌ، ومُؤجَّل الوجود الفرديِّ في ظلِّ غياب وجود الوطن المسروق مُحرَّراً من غاصبيه، فإنَّ هذه الحالة النفسية المأساوية التي تفقده الإحساس بجدوى الحياة، أو الإيمان بأي قيمة، تجد تصعيدها النَّفسي في محاولات دؤوب للتَّعويض عن كل أنواع الفَقْدِ عبر السَّعي المحموم إلى تكديس المال بأي طريقة ممكنة، بغية اقتناصِ حُصُولٍ مُتَوَهَّم على تَوازنٍ وجوديٍّ مستحيل، أو على راحةٍ نفسيةٍ لنَ تُنَالَ، أبداً، إلا توهُّماً: "أريد مزيداً من النقود .. مزيداً من النقود .. ولقد اكتشفت أنه من الصَّعب تجميع ثروة عن طريق التَّهذيب "(11)،  لأنَّ "القرش يأتي أولاً، ثُمَّ الأخلاق"(12).  

لم يكن ثمَّة من خيارٍ أمام أبي الخيزران سوى خيارُ الهروب، سواءً أكانَ ذلك عبر آلية التَّصعيد النَّفسي، أو عبر إطلاق الخُطَى مرتعشةً في دروب السَّعي نحو تحقيق غاية مستحيلة. كانَ هذا هو وحدهُ الخيار الذي حكم مسيرة أبي الخيزران منذ اقتلاع رجولته منه، واقتلاعه من وطنه. ولئن تجسَّد هذا، في البدء، في هروبه من المستشفى بلا وعيٍّ منه، وقبل أنْ يشفى تماماً، و"كأنَّ هروبه كان قادراً على تسوية الأمور من جديد"(13)، فإنَّهُ ستجسَّد، فيما بعدَ البدءِ، وبوعيٍّ كاملٍ هذه المرَّة، في هروبه من مواجهة مأساته عبر الانخراط في رحلة البحث عن حلولٍ مستحيلة، سواء بإلهاب الخطى في متاهة البحث عن منفى آخر في المنفى، أو بالسَّعي المسعور نحو تكديس المال بحثاً عن راحة مستحيلة في ظلَّ غياب الوطن، وفقد الرُّجولة الذي هو قرينُ الجدبِ ممثَّلاً في فقدان إمكانية توفُّر أي قدرٍ من قُدْرةٍ على الإخْصَابْ.

الزَّمَكَانُ الرِّوائِيُّ وتَولِيدُ الدَّلالات

يتضحُّ مما تقدَّم، أنَّ زَمَكَاني العملية الفدائية وغرفة العمليات يلعبان دوراً أساسياً على مستوى التَّوليد الدَّلالي، بل إِنَّهما لا يَحْضُرَانِ إلا لِلَعِبِ هذا الدَّور عبر تقليص حضورهما الحسيِّ إلى أقصى حدٍّ ممكن، بحيث تنبثق دلالاتهما من خلال موازاتهما بحدثين تاريخيين كبيرين يسهمان في بناء شبكةٍ دلاليةٍ واسعةٍ وعميقة، وليسَ مِنْ خلال حضورهما الحسيِّ المتحقق من خلال الوصف التفصيلي لمكوناتهما، أو من خلال متابعة حركة شخصيات تنهمك في سلسلة من الأحداث المتعاقبة التي تجري فيهما، فتسمهما بميسمها، وتجعلْهُمَا مكانين زمانيين يتفاعلان مع المكونات الأخرى للنَّسيج الرِّوائي، ويسهمان في إثْراء صيرورة السَّرد، وبناء الشَّخصيات، وتقوية الحبكةُ الرِّوائية، وتطوير ممكنات تعزيز خطوط التَّوتُّر الدِّرامي عبر مساراتٍ تفاعليةٍ مُتشابكة.

يحضر زَمَكَان العملية الفدائية حضوراً إشارياً، ويقتصر على كونه مدخلاً للولوج إلى غرفة العمليات، غير أنَّ ارتباطه بالحدث التاريخي المتمثل بالثَّورة المجهضة يجعل منه بؤرة تبثُّ شبكة من الدَّلالات، إذْ يُشير إلى ما نهض به الفلسطينيون دفاعاً عن وطنهم في تلك المرحلة العاجزة التي انتهت بهزيمة أفضت إلى بتر الوطن، واغتصاب جزئه المبتور، واقتلاع أغلب أهله منه، وهي الأمور التي تتوازى، رمزياً، مع الانفجار الأخير الذي أوصل أبي الخيزران إلى غرفة العمليات التي فيها اقتلعت رجولته ليتحوَّل إلى محضِ ركامٍ لا يني يتمدَّدَ  في مزيدٍ من رُكامْ.

ولا ريبَ، في ضوء ما تقدَّمَ، أنَّ زَمَكَان غرفة العمليات ينطوي على أكثر من احتمال بالنِّسبة لمصير أبي الخيزران، وضمن ذلك احتمال التَّعافي، غيرَ أنَّ السَّعي لإسقاط التَّاريخ على هذا الحدث الرَّمزي قد قلَّص الخيارات، وحدَّدها بخيار وحيد يُرادف سقوط الوطن. ولا ريب أيضاً أنَّ الحدث المأساوي الخاص بأبي الخيزران كان يمكن أنْ يتمَّ بعيداً عن غرفة العمليات، كأَنْ يكون الانفجار نفسه هو المسبَّب المباشر والنهائي لفقدان عضوه الذَّكري، غيرَ أنَّ توجه الكاتب نحو استثمار زَمَكَان غرفة العمليات كمجال حيويٍّ مثالي لإطلاق التَّداعي الحُرِّ على النَّحو الذي بيَّناهُ، ولإقامة التَّوازي على مستويي مُفَجِّرات التَّداعي والأحداث الرَّاهنة، قد دفعه، فيما نحسبُ، إلى تنحية ذلك الخيار وغيره من ممكنات فنيَّة كامنة، وإلى توظيف غرفة العمليات، بما تحتويه من عناصر أساسية مُقلَّصةٍ، لتكون إطاراً يحتوي الحدث، ويساعد على بناء شبكة علاقاته ودلالاته.

*   *   *

تبدَّى زَمَكَان غرفة العمليات زمكاناً ملائماً لاحتواء حدث شخصيٍّ، خاصٍّ جداً، يتوازى مع حدث تاريخيٍّ عام وقع في أماكن شتى من الوطن، وتمثَّل في بتر جزء من فلسطين، واقتلاع أغلب أهلها من حقولهم، وبيوتهم، ومساحات أرضهم، وفضاءات سماواتهم، ومن أحياز حياتهم الإنسانيَّة الحميمية في ربوع وطنهم الذي سكنهم فسكنوه، لقذفهم إلى المنافي، عقب احتلال أرضه وإتمام السيطرة عليها من قبل عصابات الإرهاب الصهيوني، وذلك كمعادل تاريخيٍّ مأساوي لمحنة أبي الخيزران الَّتي أطبقت عليه في غرفة العمليات، التي هي مكانٌ مجازي يجري توظيفه ليس للدلالة على أحداث تجري فيه فحسب، وإنَّما أيضاً، وربما قبل ذلكَ وفقَ ما أوضحناهُ من قبلُ، للدلالة على أحداث تتجاوزه وتقع خارجه.

ولئن كان هذا هو ما خلصت إليه قراءتنا في رواية "رجال في الشَّمْس"؛ فإنَّ روايتي "ما تبقَّى لكم" و"عائد إلى حيفا" تقدِّمان صوراً لأماكن الوطن في نهايات مرحلة التَّوتر السَّابقة لاحتلال فلسطين (أي قبيل اكتمال جانبٍ من فصول المأساة الكبرى في العام 1948)، تشبه، في بعض المواضع، الصُّورة التي وجدناها هنا، وتختلف عنها في مواضع أخرى. ولعلَّ أبرز علامات الاختلاف تكمن في أنَّ هاتين الروايتين تقدَّمان أماكن الوطن موسومةَ بأزمنتها على نحو يحقق لها حضوراً حيوياً مجسَّداً ينطوي على درجة عالية من التَّشخيص والتَّعيين، والتَّحويل الفني الموائم. وتتمَثَّلُ أماكن الوطن وأزمنته التي نشير إليها، هنا، في زمَكَان أساسيٍّ هو زَمكانُ المدينة وما يحتويه من زمكانات صُغرى تسهم في تشكيله وتحديد دلالاته، وذلك في نهايات مرحلة التوتر التي أغلقتها هزيمةٌ كارثيةٌ فتحت الأبواب واسعةً أما اقتلاع الفلسطيني من وطنه وتشريده في منافي الأرض، كمرحلة لم تستغرق من الزَّمن إلا قليلاً، حتَّى أعاد الفلسطينيُّ الإمساك بصورة الوطن الأخيرة، بادئاً منها نَسَقِ عودته إليه، عبر إشعال جذوات النِّضال الوطني التَّحرُّري المُرِّ، القاسي والنَّبيل في آنٍ معاً، والذي لا يستهدف شيئاً سوى تحرير فلسطين لتحقيق وجودها الحقيقي في الوجود، وذلك إثراءً للحياة، وإغناءً لمغزى وجود الإنسان الفلسطيني في الوجود، وانتصاراً للإنسانية الحقَّة التي تتوقُ لإدراك جوهرها العميق عبر مواجهتها الصَّارمة، والمُتضافرة، لكلِّ إرهابٍ أسودَ يستهدف أخذَ الإنسانيَّة إلى نقيضها عبر عنصرية بغيضة، أو تطرُّف أعمى، أو استعمار أجنبيٍ لا ينيِّ يُبدِّلُ أقنعته لتأبيد حضوره في عالمٍ لم يعدْ قادراً على احتمال وجوده في وجودٍ إنسانيٍّ حُرٍّ يتأبَّي عليه!

هوامش وإشارات:

  1. غسَّان كنفاني: الآثار الكاملة، المجلَّد الأوَّل، الروايات، لجنة تخليد غسان كنفاني ودار الطليعة للطباعة والنَّشر، الطبعة الأولى، تشرين الثاني (نوفمبر) 1972، ص 106.
  2. المصدر نفسه، ص 106-107.
  3. المصدر نفسه، ص 94.
  4. المصدر نفسه، ص 109.
  5. المصدر نفسه، ص 110.
  6. المصدر نفسه، ص 110.
  7. المصدر نفسه، ص 109.
  8. المصدر نفسه، ص 121.
  9. المصدر نفسه، ص 109.
  10. المصدر نفسه، ص 75.
  11. المصدر نفسه، ص 114.
  12. المصدر نفسه، ص 84.
  13. المصدر نفسه، ص 110.